الاضطراب العاطفي الموسمي: أسباب نفسية وفسيولوجية وعلاجات متاحة
من المؤكّد أنّ لكلّ فرد منّا موسماً يفضّله عن غيره، فهناك من يجد في الشتاء ملاذاً دافئاً، حيث يُحيط به الجو البارد الذي يدفعه للاختباء في منزله، مُحاطاً ببطانية دافئة ويستمتع بمشاهدة البرامج التلفزيونية المفضلة لديه، بينما يحتسي مشروباً ساخناً يُعزز شعور الراحة والسكينة. وعلى النقيض، هناك آخرين يترقبون قدوم فصل الصيف بشغف، مع شمسه الساطعة وحرارته المرتفعة، التي تمنح الحياة ألواناً نابضة بالحيوية، ويستمتعون بالخروج إلى الشواطئ المفتوحة، حيث يمكنهم الانغماس في الهواء الطلق والشعور بحرية الحركة. لكن، الأمر يصبح أكثر تعقيداً عندما يحل الفصل الذي لا يُحبّه الشخص، حيث يرافقه شعور غير مريح يُشبه الكابوس. فمع بداية هذا الفصل، يبدأ مزاج الفرد في التغير، وينعكس سلباً على حالته النفسية. فالفصول ليست مجرّد تقلبات مناخية عابرة في الطقس، بل هي رحلات داخلية عميقة تؤثّر في أعماق نفوسنا وتُشكّل أفكارنا ومشاعرنا، وتترك بصمات واضحة على صحتنا النفسية. فما هي هذه الظاهرة العلمية النفسية التي تتجلى مع نهاية وبداية كلّ فصل وتؤدي إلى تغيرات ملحوظة في السلوك والمزاج؟
الاضطراب العاطفي الموسمي: الفصول تتغير والمزاج يتبدّل
يُعتبر الاضطراب العاطفي الموسميSAD Seasonal Affective Disorder، أو كما يُشار إليه عموماً بالاكتئاب الموسمي Seasonal Depression، نوعاً خاصاً من أنواع الاكتئاب التي تظهر وتتلاشى مع تغيّر الفصول.
من الشائع أن يبدأ هذا الاضطراب في أواخر فصل الخريف أو خلال الأشهر الأولى من الشتاء، حيث تتراجع ساعات ضوء الشمس وتصبح الأجواء أكثر برودةً وظلاماً. كذلك قد تحدث نوبات الاكتئاب الموسمي خلال فصل الصيف، وتسمى بالاكتئاب الموسمي الصيفي، أو Summer Depression، وعلى الرغم من أنّ هذا النوع من الاكتئاب يمكن أن يكون له تأثير واضح وقوي على الأفراد، إلا أنه يُعتبر أقل شيوعاً مقارنةً بالنوبات التي تحصل في فصل الشتاء، التي تُعرف باسم اكتئاب الشتاء أو Winter Depression، التي تُعد أكثر وضوحاً وحدّة.
عوامل عديدة والنتيجة واحدة: أسباب الاضطراب العاطفي الموسمي
يُفسّر الخبراء آلية حدوث الاكتئاب الموسمي من منظور فسيولوجي من خلال تأثير أشعة الشمس على منطقة معينة من الدماغ تُعرف طبياً باسم تحت المهاد، أو الهيبوثلاموس Hypothalamus، التي تلعب دوراً حيوياً في تنظيم العديد من الوظائف الجسدية والعاطفية، بما في ذلك حرارة الجسم والحركة الهضمية وتنظيم الجوع والشبع والعطش والنوم واليقظة والإفرازات الهرمونية المختلفة، لذا، عندما تتراجع مستويات ضوء الشمس، كما يحدث في فصلي الخريف والشتاء، تبدأ الاختلالات بالظهور، ما يؤدي إلى تأثيرات متنوعة تؤثر على المزاج والسلوك، ما يسبب الاختلالات التالية:
انخفاض مستويات السيروتونين Serotonin: يُعد انخفاض مستويات السيروتونين، ذلك الناقل العصبي الهام، أحد العوامل الرئيسية المرتبطة بالاكتئاب الموسمي، حيث يواجه الأشخاص تغيرًا ملحوظًا في مزاجهم، ما يجعلهم يشعرون بالحزن والقلق بشكلٍ دائم، كما تُعكّر صفو الشهية وتُسبّب اضرابات في النوم. تتداخل هذه العوامل مع بعضها لتخلق حلقة مفرغة من الاكتئاب، حيث يصبح الفرد عالقاً في دوامة مستمرة من مشاعر الكآبة والتغييرات السلبية المفاجأة.
ارتفاع مستويات الميلاتونين Melatonin: يشهد الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الموسمي ارتفاعًا في مستويات الميلاتونين، ذلك الهورمون الذي يُعرف في تنظيم النوم واليقظة. عندما تتزايد كميات الميلاتونين في الجسم، يتسبب ذلك في شعور متزايد بالنعاس والخمول، ما يساهم في خلق حالة من الركود العاطفي. هذا الارتفاع غير الطبيعي يثقل كاهل الفرد، ما يعزز من مشاعر الانسحاب والتراجع عن الأنشطة اليومية. ومع تداخل تأثير الميلاتونين مع الظروف المناخية المتغيّرة، يصبح من الصعب على هؤلاء الأفراد استعادة توازنهم النفسي، ليقعوا في دوامة من الكسل العاطفي والجسدي.
اضطراب إيقاع الساعة البيولوجية Circadian Rhythm Sleep Disorder: يؤدي انخفاض مستويات الضوء خلال فصل الشتاء إلى حدوث اضطرابات في إيقاع الساعة البيولوجية، تلك الساعة الداخلية التي تُنسّق بين مختلف وظائف الجسم الحيوية. يتسبب هذا الخلل في فقدان التوازن الطبيعي، ما ينعكس بشكلٍ مباشر على الحالة النفسية للأفراد، ويُفسر ظهور أعراض الاضطراب العاطفي الموسمي، إذ تتأثر الأنشطة اليومية، مثل النوم والشهية، بتغيرات الضوء، ما يخلق شعوراً بالحزن والإحباط وعدم الاستقرار.
انخفاض مستويات فيتامين د Vitamin D: يُعتبر انخفاض مستويات فيتامين D أحد العوامل المساهمة في الاكتئاب الموسمي، حيث يعاني العديد من الأفراد الذين يعيشون في أجواء شتوية من نقص هذا الفيتامين الحيوي الذي يلعب دورًا أساسيًا في تعزيز نشاط السيروتونين، الذي يؤثر بشكلٍ مباشر على المزاج والشعور بالسعادة.
الأفراد الأكثر عرضة للإضطراب العاطفي الموسمي: ما بين الوقائع والمؤثرات الخارجية
يُعتبر الاضطراب العاطفي الموسمي من الحالات التي تُظهر انتشارًا أكبر بين الفئات العمرية التي تتراوح بين 18 و30 عاماً، خاصةً بين الإناث. ولكن، الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، إذ ثمّة مجموعة من العوامل التي قد تزيد من فرص الإصابة بهذا الاضطراب، منها:
الجنس: النساء أكثر عرضة للإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي، إذ أنّ معدّل إصابتهن يفوق الرجال بأربعة أضعاف.
العمر: تلعب الفئة العمرية دورًا حاسمًا في احتمالية الإصابة بالاكتئاب الموسمي، حيث يُعد البالغون الأصغر سناً أكثر عرضة لهذا الاضطراب مقارنةً بكبار السن. ومع ذلك، فإنّ الإصابة لا تقتصر على البالغين فحسب، إذ يمكن أن يصيب هذا النوع من الاكتئاب المراهقين أيضاً والأطفال.
الحالة النفسية: إنّ الأشخاص الذين يواجهون تحديات نفسية أخرى، ، مثل الاكتئاب الشديد أو اضطراب ثنائي القطبDisorder Bipolar، يُعتبرون أكثر عرضة للإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي، إذ أنّ التأثيرات المتراكمة لهذه الاضطرابات النفسية قد تُعقّد الوضع، ما يجعل الأفراد أكثر حساسية للتغيرات الموسمية التي تطرأ على البيئة المحيطة.
التاريخ الصحي العائلي: يُعتبر التاريخ الصحي العائلي عاملاً هاماً في تحديد احتمالية الإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي، إذ يمكن انتقاله بطريقة وراثية من خلال أقارب يعانون من هذا الاضطراب، أو من أنواع أخرى من الاكتئاب والأمراض النفسية، مثل الاكتئاب الشديد أو الفصام، الذي يُعرف باسم السكيزوفرينيا Schizophrenia.
مكان العيش: يُظهر مكان الإقامة تأثيرًا كبيرًا على احتمالية الإصابة بهذا الاضطراب، حيث يُعدّ الأفراد الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن خط الاستواء، سواءً في شمال الكرة الأرضية أو جنوبها، أكثر عرضة لهذه الحالة النفسية مقارنةً بغيرهم. فالتغيرات الموسمية في هذه المناطق تؤثر بشكلٍ كبير على مستويات الضوء، ما يؤدي إلى تباين كبير في ساعات النهار وظروف الطقس، وهو ما ينعكس سلبًا على الحالة المزاجية للأفراد.
أعراض الاضطراب العاطفي الموسمي: العلامات النفسية والجسدية
يُعتبر الاضطراب العاطفي الموسمي من أكثر أنواع الاكتئاب حدّة، ويشارك العديد من الخصائص مع الأنواع الأخرى من الاكتئاب، سواء من الناحية النفسية أو الجسدية، إذ يعاني الأفراد المصابون بهذا الاضطراب من مجموعة من الأعراض التي تؤثر بشكلٍ عميق على حياتهم اليومية، ما يؤدي إلى تغييرات ملحوظة في أنماط حياتهم وسلوكياتهم، منها:
الشعور باليأس أو انعدام القيمة
انخفاض مستوى الطاقة وصعوبة في التركيز
فقدان الاهتمام بالأنشطة التي كانت ممتعة سابقاً
مشاكل واضطرابات النوم
تغيرات في الشهية أو الوزن
الشعور بالخمول
وجود أفكار سلبية متكرّرة قد تصل الى حدّ التفكير في الموت أو الانتحار
تشمل أعراض الاكتئاب الموسمي الشتوي، الذي يُعرف باسم اكتئاب الشتاء:
انخفاض طاقة الجسم
فرط في النوم
زيادة الوزن
الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات
الانسحاب الاجتماعي
أمّا الاضطراب الموسمي الصيفي، فيشمل العوارض التالية:
القلق
الأرق
نوبات من السلوك العنيف
فقدان الشهية
التخلص من الاضطراب العاطفي الموسمي: ما بين العلاج الدوائي والنفسي
تُعتبر خيارات علاج الاكتئاب فعالة في معالجة الاكتئاب العاطفي الموسمي، نظرًا الى أنه يصنف ضمن الأنواع المختلفة للاكتئاب، إذ يمكن معالجة هذا الاضطراب من خلال استخدام علاج واحد أو مجموعة من العلاجات المتاحة، التي تتنوع أساليبها وطرقها لتحقيق أفضل النتائج. تشمل هذه العلاجات:
العلاج الضوئي: يُعدّ العلاج الضوئي من الوسائل الشائعة والفعالة للتعامل مع الاضطراب العاطفي الموسمي، إذ يتضمن العلاج الجلوس على بُعد عدّة أقدام من صندوق خاص يُصدر ضوءاً ساطعاً، حيث يتعرض الفرد لهذا الضوء لمدة تتراوح بين 20 و30 دقيقة كلّ صباح. يساهم هذا التعرض في تعديل مستويات المواد الكيميائية في الدماغ، مثل الناقلات العصبية المرتبطة بالمزاج، ما يساعد في تحسين الحالة النفسية للفرد. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى توقيت استخدام العلاج الضوئي، فاستخدامه في وقت متأخر من اليوم قد يُسفر عنه آثار سلبية، مثل الأرق وصعوبة النوم في الليل.
العلاج السلوكي المعرفي: يُعدّ العلاج السلوكي المعرفي، الذي يُعرف باللغة الإنجليزينة بالـCognitive Behavioral Therapy CBT، من الأساليب النفسية الرائدة التي يستخدمها المعالجون النفسيون لعلاج الاضطراب العاطفي الموسمي. يعتمد هذا النوع من العلاج، الذي يُصنف كعلاج بالكلام، على تحديد الأفكار السلبية التي قد تؤثر سلبًا على الحالة النفسية للفرد، ويقوم باستبدالها بأفكار إيجابية وبنّاءة.
تتميز فعالية العلاج السلوكي المعرفي بأنه لا يساعد في التخفيف من الأعراض خلال فترة العلاج فحسب، بل يمتد تأثيره ليبقى لفترة أطول مقارنةً بالعلاجات الأخرى. إذ يعزّز هذا النوع من العلاج قدرة الفرد على التفكير بطريق أكثر إيجابية وواقعية، ما يساهم في تحسين جودة حياته بشكلٍ عام ويعزّز من مقاومته للاكتئاب الموسمي في المستقبل.
العلاج بالأدوية: تُعتبر الأدوية، وبخاصة مضادات الاكتئاب، من الخيارات العلاجية التي يلجأ إليها الأطباء، إذ أنها تعمل على زيادة تركيز السيروتونين في الدماغ، وهو الناقل العصبي المرتبط بتحسين المزاج والشعور بالسعادة. من الممكن أو يوصف العلاج الدوائي بشكلٍ منفرد، أو يمكن دمجه مع العلاج الضوئي لتعزيز فعالية النتائج.