الاستدامة فـي الرعاية الصحية
نحو تحقيق مستقبل أكثر استدامة لكوكب الأرض وسكانه
فـي عالم يشهد تغيّرات مناخية متسارعة وزيادة الضغوط على الموارد الطبيعية، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن نتعامل مع مجالات الرعاية الصحية من منظور الاستدامة والسعي إلى الحفاظ على البيئة وصحة المجتمع فـي آنٍ واحد. وتتيح التقنيات الحديثة والابتكارات فـي مجال الطب والإدارة الصحية، فرصًا هائلة لتحقيق الاستدامة الصحية، من التكنولوجيا الخضراء التي تحسّن كفاءة استخدام الطاقة فـي المستشفـيات، إلى البرامج التي تعزّز الوقاية وتقلّل من حاجة المرضى للعلاج، فإن جعل الرعاية الصحية أكثر استدامة، يمكن أن يكون له تأثير كبير على صحة الكوكب وصحة سكانه.
الاستدامة فـي سياق الرعاية الصحية، تعني تنظيم رعاية المرضى والعمليات الجراحية والتوزيع الطبي ومجالات التشخيص والبحث المرتبطة بها، بطريقة لا تضر بموارد الأرض التي تمتلكها أجيالنا الجديدة. إذ إن الرعاية الصحية هي خدمة عملاقة مستنزِفة للموارد وتتطلّب استهلاكاً عالياً للأراضي ورأس المال البشري والطاقة والموارد الطبيعية. لذا نحن بحاجة إلى تغيير النمط السائد من خلال الابتكارات والتقنيات الرقمية. ولقد شهد العالم اختراعات واكتشافات وتطبيقات عدّة فـي مجال الرعاية الصحية، تهدف إلى تقليل البصمة الاقتصادية والبيئية والكربونية.
الآثار السلبية للقطاع الصحي على البيئة
تشير التقديرات إلى أن قطاعات الرعاية الصحية فـي الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة وكندا، تتسبّب بانبعاث 748 مليون طن متري من الغازات الدفـيئة سنوياً، وإذا كان أي من هذه القطاعات يمثّل دولة، فإن هذه الدولة ستحتل المرتبة السابعة الأعلى فـي العالم من حيث انبعاثات الغازات الدفـيئة بحسب تقرير شبكة جاما. كما يستهلك قطاع الرعاية الصحية، الطاقة والموارد بشكل هائل متمثّلاً بانبعاث الإشعاعات فـي آلات التشخيص واستهلاك الطاقة الكهربائية وإنتاج النفايات العضوية وغير العضوية واستهلاك الوقود الأحفوري والعديد من الأمور الأخرى المشاركة فـي شبكة سلسلة التوريد الضخمة من المستشفـيات والعيادات والصيدليات. وتُبذل خلف الكواليس، جهود واسعة للتوصّل إلى حلول ومعالجة هذه التأثيرات السلبية.
فوائد الممارسات المستدامة فـي الرعاية الصحية
تُعتبر الممارسات المستدامة فـي الرعاية الصحية، أساسية لتحقيق توازن بين تقديم الخدمات الصحية العالية الجودة والحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، ما يعود بالنفع على المؤسسات الصحية والمجتمعات على حد سواء. وتشمل هذه الممارسات تقليل تكاليف التشغيل واستهلاك الموارد مثل المياه والطاقة والمواد الخام، وتحسين جودة الخدمات الصحية، ذلك من خلال توفـير بيئة صحية نظيفة وآمنة، إلى جانب زيادة كفاءة العمليات، عبر تطبيق التكنولوجيا الخضراء وتحسين إدارة الموارد، ما يعني إجراءات أسرع وأكثر دقة، ما يوفّر الوقت والجهد والموارد. هذا ويساهم الحفاظ على الموارد الطبيعية، فـي تقليل الاستهلاك الزائد للموارد الطبيعية، ما يؤدّي الى الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية للأجيال الجديدة.
البحث والابتكار لتحقيق التقدّم المستدام
يمثّل البحث والابتكار فـي مجال الرعاية الصحية، العمود الفقري لتحقيق تقدّم مستدام وتحسين شامل فـي هذا القطاع الحيوي. فمن خلال الاستثمار فـي الأبحاث العلمية وتطوير تقنيات مبتكرة، يمكن تحقيق قفزات نوعية فـي جودة الرعاية الصحية وتقليل الأثر البيئي. على سبيل المثال، تُسهم التقنيات الطبية المستدامة، مثل الأجهزة الطبية الموفّرة للطاقة والمواد القابلة لإعادة التدوير، فـي تقليل النفايات وتعزيز كفاءة استخدام الموارد. وتُعزّز الابتكارات نظم الإدارة المستدامة داخل المؤسسات الصحية، بما فـي ذلك أنظمة إدارة الطاقة والمياه، لتقليل البصمة الكربونية وتعزيز الاستدامة البيئية.
بفضل هذه الجهود المستمرة فـي البحث والابتكار، يمكن للمؤسسات الصحية تقديم رعاية أكثر كفاءة واستدامة، ما يحسّن جودة الحياة للمرضى والمجتمعات على حد سواء. كما يمثّل تصميم المباني الخضراء فـي المستشفـيات، توجّهاً ينبع من مفهوم الاستدامة. وتشمل التدابير الأساسية المعتمدة للمباني الخضراء، استخدام مواد بناء مستدامة، التي لا تسبّب ضررًا للبيئة، وتستجيب لمعايير الاستدامة العالمية. كما يشمل أيضًا تحسين كفاءة استخدام الطاقة، من خلال استخدام تقنيات توفـير الطاقة مثل الإضاءة LED ونظم التدفئة والتبريد عالية الكفاءة. ويركّز تصميم المباني الخضراء أيضًا على جمع واستخدام المياه بكفاءة، ما يشمل تركيب أنظمة لجمع مياه الأمطار واستخدامها فـي أغراض مثل الري والتنظيف. وتتضمّن التصاميم الخضراء أيضًا تنفـيذ نظم للطاقة الشمسية، وهو ما يساهم فـي توليد الطاقة النظيفة والمستدامة.
الذكاء الاصطناعي أحد أهم التغييرات فـي مجال الرعاية الصحية
يُعتبر الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، بعض أبرز الابتكارات المستخدمة، التي تلعب دوراً وقائياً فـي الطب التنبؤي والوقائي وتبسيط المتغيرات الأخرى مثل إدارة الأسِرَّة فـي المستشفـيات والسجلات الطبية الإلكترونية وتنظيم العمليات الجراحية وصرف الأدوية بكفاءة. وفـي السنوات القليلة الماضية، كان إدخال طب النانو الذي يركّز على الجزيئات العليا لتوفـير علاج أكثر فاعلية للأمراض بمثابة مُبشّر بأخبار جيدة على جبهة العلاج، إذ إن القدرة على تقليل زيارة عدد كبير من المرضى إلى قسم العيادات الخارجية سيكون له تأثير كبير على انبعاثات الكربون، حيث يمكنهم تجنّب الذهاب إلى أطبائهم فـي العيادات الخارجية أو إلى المستشفـيات.
التطبيب عن بُعد
لعب التطبيب عن بُعد، والذي يُعتبر أحد أكثر الابتكارات كفاءة، دوراً فـي زيادة الاستشارات الطبية عن بُعد، وقد أصبح هذا ممكناً من خلال تسخير قوة الواقع الافتراضي وإنترنت الأشياء (IOT)، كما ساعد الواقع الافتراضي والرعاية الافتراضية العمليات الجراحية الروبوتية التي تمكّن الجراحين المهرة من إجراء العمليات الجراحية عن بُعد. ويضاف إلى ذلك أيضاً الطباعة الثلاثية الأبعاد التي تتيح الإنتاج الآلي للأدوية والأطراف الاصطناعية والأعضاء المزروعة بدقة كبيرة وبوتيرة مذهلة، وبالتالي فقد خفّضت التكلفة والطاقة المطلوبة فـي هذا القطاع الضخم. ومن خلال تطبيق تكنولوجيا تحرير الجينات العنقودية المنتظمة والمتباعدة القصيرة المتناوبة (CRISPR)، أصبح بوسعنا تطويع علاج الأمراض القاتلة مثل السرطان وغيره من الحالات الموروثة، وهذا من شأنه أن يساعد الرعاية الصحية على تقليل العبء العالمي للإنفاق على الأمراض بشكل تدريجي.
إدارة النفايات المعضلة الأبرز لتحقيق الاستدامة الصحية
تأتي إدارة النفايات المستدامة فـي مراكز الرعاية الصحية، على رأس أولويات أجندة الاستدامة فـي هذا القطاع الحيوي. ويتمحور التركيز فـي هذا السياق حول تطبيق مبادئ الاستدامة على عمليات التخلص من النفايات، مع التركيز على جوانب أساسية عدّة. وتشمل هذه الجوانب استخدام مواد بنّاءة مستدامة فـي تصميم وتشييد المرافق الصحية، والتي تتّسم بالقدرة على التحلل البيولوجي أو إعادة التدوير، ما يؤدّي الى تقليل الآثار البيئية للنفايات. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر فصل النفايات وإعادة تدويرها وتصنيفها بدقة، جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية المستدامة، ما يقلّل من حجم النفايات الخطرة ويزيد من فعالية استخدام الموارد. كما تُسهم إدارة النفايات المستدامة فـي مراكز الرعاية الصحية فـي تحسين الصحة العامة والبيئة، وتعزّز من فعالية استخدام الموارد وتقليل التأثيرات السلبية للنفايات على المجتمع والبيئة بشكل عام.
الدول العربية تعتمد استراتيجيات لدمج الاستدامة فـي الرعاية الصحية
تنشط العديد من الدول العربية، فـي تبنّي استراتيجيات مستدامة لتحسين الرعاية الصحية. وتلعب السياسة والحوكمة دورًا رئيسيًا فـي هذا الموضوع، حيث تشكّل الإطار الرئيسي الذي يسهّل ويدعم عمليات الدمج والتنفـيذ. فعلى سبيل المثال حدّدت دائرة الصحة فـي أبو ظبي، أهدافاً طموحة لاستدامة قطاع الرعاية الصحية خلال عام 2023، وتستهدف هذه الإجراءات خفض انبعاثات الكربون بنسبة 20 فـي المئة بحلول 2030، وتحقيق صافـي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، ووضع خارطة طريق واضحة للتقدّم المستدام فـي مجال الرعاية الصحية وتعزيز المواءمة عبر النظام البيئي. من جهتها وضعت المملكة العربية السعودية، أربع أولويات ضمن برنامج تحول القطاع الصحي، وهي الوقاية والصحة العامة والابتكار والاستدامة، وتعمل على توسيع تقديم خدمات الصحة الإلكترونية والحلول الرقمية، فضلًا عن تحسين جودة الخدمات الصحية، وتحويل نظام الرعاية الصحية فـي المملكة ليكون أكثر شمولية وتكاملًا، ويلتزم بأعلى المعايير الدولية فـي تقديم الخدمات. يجب أن تترافق هذه الجهود، مع تعزيز التوعية والتدريب بين الموظفـين والأطقم الطبية حول أهمية الاستدامة وتطبيق الممارسات المستدامة فـي العمل اليومي. كما يجب أن تتبنّى المؤسسات الصحية نهجًا مشتركًا للتعاون والشراكة مع الحكومات المحلية والجهات ذات الصلة لتحقيق أهداف الاستدامة.
يتيح تعزيز ربط مجالات الرعاية الصحية بالاستدامة، فـي تحقيق آفاق جديدة لبناء مستقبل صحي ومستدام. إذ إن دمج الاستدامة فـي الرعاية الصحية ليس مجرّد تحسين للخدمات الحالية، بل هو إعادة تصور جذرية لنظام الرعاية بأكمله. ومن خلال الابتكار المستمر والبحث الطموح، يمكننا تحويل المرافق الصحية إلى مراكز صديقة للبيئة، وتقليل الأثر البيئي عبر تبنّي تقنيات متقدّمة، وتحسين حياة المرضى عبر استشارات افتراضية وإدارة ذكية للموارد.