Bruce Clay

عندما يتحول الطعام إلى ملاذ

رحلة في عالم الأكل العاطفي واضطرابات التغذية

العلاقة المعقدة بين الطعام والمشاعر تتطور إلى اضطرابات غذائية خطيرة
العلاقة المعقدة بين الطعام والمشاعر تتطور إلى اضطرابات غذائية خطيرة

في خضَم صخب الحياة اليومية وفي مواجهة تحدَياتها المتلاحقة، نجد أنفسنا أحياناً غارقين في بحر من المشاعر السلبية، فتأزّم العلاقات وضغوط العمل وعبء المسؤوليات اليومية، كلها عوامل تساهم في إثارة عاصفة الإنفعالات داخلنا. وفي محاولة للبحث عن ملاذ سالم من عواصف الروح، غالباً ما نجد أنفسنا نلجأ إلى الطعام كملاذ آمن، يأخذنا في رحلة طويلة تُشعرنا بالأمان والنسيان والتخدير العاطفي، لننسى همومنا وأوجاعنا، ولو للحظة زمنية قصيرة.

على الرغم من حقيقة أنّ الطعام هو صديق دائم يمدنا بالراحة الموقتة، إلّا أنّ هذا الهروب الموقت إلى عالم المذاقات اللذيذة ، قد يتحول تدريجياً إلى سجن نبنيه بأنفسنا. فالعلاقة المعقدة بين الطعام والعاطفة، وإن بدت بريئة في البداية، قد تتطور إلى إدمان يؤثر سلباً على صحتنا النفسية والجسدية والطبية، ففي كل قضمة نأكلها هرباً من الواقع المؤلم، نقترب خطوة واحدة من فقدان السيطرة على أنفسنا، ونغرق في دوامة إضطرابات غذائية عديدة خطيرة، تتطلب تدخلاً متخصصاً من معالجين نفسيين.

فما هو الأكل العاطفي الذي يربط بين مشاعرنا وشهيتنا، وكيف يمكن لهذه العادة البسيطة المسلية، أن تتحول إلى رحلة مظلمة تنتهي بإضطرابات غذائية معقدة يصعب التخلص منها؟

الأكل العاطفي: بداية الطريق إلى اضطرابات التغذية

الأكل العاطفي يؤدي إلى أمراض نفسية معقدة مرتبطة بالطعام

إنّ الأكل العاطفي، أو ما يُعرف باللغة الإنجليزية بالـEmotional Eating، هو مصطلح يُجسّد مفهوم استخدام الناس للطعام كوسيلة للتعامل مع المشاعر، مثل الحزن أو الملل أو الوحدة أو التوتر، بدلاً من إشباع الجوع. وعلى الرغم من عدم ربط الكثير منا بين الأكل والمشاعر، إلا أننا جميعنا مررنا بهذه التجربة في مرحلة ما في حياتنا، عندما أنهينا كيساً كاملاً من رقائق البطاطس بسبب الملل، أو تناولنا كعكة تلو الأخرى ونحن نفكر في كيفية معالجة موقفٍ جادّ.

الأكل العاطفي بحذ ذاته هو ليس باضطراب غذائي، لكنه يمكن أن يؤدَي إلى تطور خطير. فتناول الطعام كوسيلة للاستجابة للضغوط العاطفية، هو سلوك تلقائي قد تصعب السيطرة عليه، وهو يُعتبر أيضاً من سمات اضطرابات الأكل أو عادات الأكل أو حتى السلوكيات، التي يمكن في نهاية المطاف أن تؤدَي إلى اضطرابات غذائية خطيرة، مثل فقدان الشهية العصبي Anorexia Nervosa أو الشره المرضي العصبي Bulimia Nervosa أو حتى اضطراب نهم الطعام أو ما يُعرف بالـBinge Eating.

أسرى النحافة: رحلة في عالم فقدان الشهية العصبي

فقدان الشهية العصبي يأسر المريض في دوامة من الحرمان والخوف من اكتساب الوزن

فقدان الشهية العصبي، الذي يُعرف أيضاً باسم القهم العصبي أو Anorexia Nervosa، هو أكثر من مجرد اضطراب غذائي نفسي، إذ إنه صراع مرير بين الجسد والنفس، ينطوي على الخوف الشديد من اكتساب الوزن، أو عدم الرضا عن صورة الجسم، وشعور الشخص بالسُمنة على الرغم من كونه نحيفًا، إذ  يسعى الذين يعانون من هذه الحالة، بجهد لتحقيق الكمال الذي يراودهم، حتى لو تطلب الأمر التضحية بصحتهم وراحتهم النفسية والجسدية.

في عالمنا الذي تنتشر فيه المعايير الجمالية الصارمة، يصبح اضطراب فقدان الشهية العصبي كابوساً حقيقياً، فالشخص الذي يعاني من هذه الحالة، يجد نفسه أسيراً لشبكة من الضغوطات الاجتماعية التي تدفعه إلى السعي وراء النحافة المفرطة، ليؤدَي هذا الخوف المبالغ فيه، من اكتساب الوزن، إلى التوقف عن تناول الطعام أو اللجوء إلى ممارسة التمارين الرياضية بشكلٍ مفرط، بهدف إنقاص الوزن والوصول إلى  جسم مثالي، لا يمكن تحقيقه. وفي خضم كل هذه الممارسات لمعالجة عيوب لا وجود لها، يتطور هذا الاضطراب المعقد، وينشر تأثيره على كل أجهزة الجسم، ويؤدَي إلى مضاعفات خطيرة تهدد الحياة، بما في ذلك ضعف القلب وتساقط الشعر وهشاشة العظام.

يؤثر اضطراب فقدان الشهية العصبي على كلا الجنسين وعلى مختلف الفئات العمرية، ولكنه أكثر شيوعاً بين الفتيات والنساء، خاصة المراهقات، بسبب التغيرات الجسدية والهرمونية التي تطرأ خلال فترة المراهقة. بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية التي تفرض معايير جمالية غير واقعية، فهي تزيد من خطر الإصابة بهذه الاضطرابات. ومع ذلك، فإنّ الأولاد والرجال ليسوا بمنأى عن هذه المشكلة، إذ إنهم أيضاً يتأثرون بالضغوط الاجتماعية وبالصور النمطية عن الرجولة.

الشره المرضي العصبي: سجن من الذنب

مشاعر الذنب تستحوذ على عوارض اضطراب الشره المرضي العصبي

الشره المرضي العصبي،  هذه الحالة التي يُطلق عليها أيضاً اسم النهام العصبي أو Bulimia Nervosa، هي واحدة من الإضطرابات النفسية الخاصة بالأكل، يعيش من خلالها من يعاني منها، في دوامة لا نهاية لها من تناول الطعام بكميات كبيرة في جلسة واحدة، تليها محاولات كثيرة للتخلص مما تناوله من خلال القيء القسري، وقد يلجأ أيضاً إلى طرق أخرى مثل ممارسة التمارين الرياضية بشكلٍ مفرط أو تناول المسهلات أو الملينات، أو اتباع حمية غذائية صارمة أو حتى الصيام، لتسبَب هذه الدورة المفرغة من الأكل والتطهير أضراراً جسيمة في الجسم، مثل اضطرابات في الجهاز الهضمي وضربات القلب وحتى تشوهات الأسنان.

يُعتبر اضطراب الشره المرضي العصبي، أكثر شيوعاً بين النساء، خاصة في مرحلة المراهقة والبلوغ المبكر، إذ  إنّ نسبة 1.5 في المئة من النساء و0.5 في المئة من الرجال، قد يختبرون حالة الشره في مرحلة معَينة من مراحل حياتهم، كما أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالضغوط الاجتماعية التي تتمحور حول الصورة الجمالية المثلية النمطية، وبمشاكل نفسية أخرى مثل الاكتئاب والقلق.

هذا، ويتغلغل اضطراب الشره المرضي العصبي لدى الأشخاص الذين عانوا من تجارب طفولة مؤلمة، مثل التنمَر أو السُمنة، أو حتى عند المؤدين والراقصين وعارضي الأزياء والممثلين والرياضيين، الذين يسعون جاهدين للحفاظ على جسم ووزن معيّنين بشكلٍ ثابت.

إضطراب نهم الطعام: ما بين الرغبات المتضاربة والعواطف المتناقضة

إضطراب نهم الطعام يتجسد بفقدان السيطرة على كميات الطعام المستهلكة

إنّ اضطراب نهم الطعام، أو ما يُعرف باللغة الإنجليزية بالـBinge Eating، هو مرض نفسي خانق يحبس المصاب في دوامة من الرغبات الجامحة غير القابلة للسيطرة. ففي هذه الزوبعة النفسية الخطيرة، يتناول المصاب كميات كبيرة جداً من الطعام دون الشعور بأنه يستطيع التحكم في ما يفعله أو حتى السيطرة على الكميات التي يتناولها، وذلك في غضون فترة زمنية قصيرة جداً، لتغمره بعد هذه النوبات الشديدة، مشاعر الخجل والذنب العميق، ما يعزَز دورة المعاناة هذه.

غالباً ما تجذب نوبات شراهة اضطراب نهم الطعام، الأشخاص نحو متاهات من النكهات الدسمة والمناظر المغرية، حيث تتصدر الأطباق الشهيرة مثل البيتزا والحلويات والآيس كريم المشهد، مستغلةً حواسنا لتدفعنا إلى تجربة لذّة عابرة تسعى إلى تهدئة الروح المضطربة.

يُعد اضطراب نهم الطعام من الأمراض الغذائية الأكثر شيوعاً في العالم، إذ  يمثّل ما يقرب من نصف الحالات المشخّصة، ويترك أثراً أكبر على النساء والمراهقين، إذ يتم تشخيصه لدى النساء بنسبة تفوق الرجال، وعند المراهقين بنسبة أعلى من البالغين.